Wednesday, September 19, 2012

و أوشك أعبده - يوسف السباعى

- يا لائمى فى الهوى ، أرح من اللوم نفسك . أنا مجنون ، فلا تضع وقتك معى عبثا .. انا سعيد بأحزانى و لوعتى و اشجانى ، فدعنى أعب منها ما استطعت فقد استغستها و روضت عليها نفسى ، حنى باتت جزءا من كيانى. دع عنك لومى ، فقد تعودت البكاء ، و ملت اليه.

ان القلب لن يضجع ، و الفؤاد لن يهجع .. فقد أقسما الا يغمض لهما جفن بعد رقدتها الاخيرة ، و ان يرعياها فى ضجعتها بين الثرى بعين الحب و الشوق التى ظلت كليلة عنها حتى رحلت.

اجل .. انى سأعوضها وفاء عن طول وفائها ، و حبا عن عظيم حبها .. علها تغفر لى فى قبرها ما بدر منى فى حياتها من اهمال و اعراض و تجاهل و انكار. 

لا تقل ان حبى سيراق على عظام نخرة و قبر بقفرة. لا تقل انى لن اجد له مجاوبة او ردا ، فما كان ذلك ليثنينى عن حبى لها . ألم تكن هى تحبنى دون ان تنتظر منى مجاوبة و لا ردا؟

ان حبى لها لا يطلب ردا ، فهو نفسه رد لندائها الضائع المتبدد ، انه صدى لحنينها الصامت و رجع لصبابتها الذاهبة.

انا لا ارجو من حبى شيئا .. فقد سبق ان اخذت عوضا عنه دون ان اشعر .. انى ارد به دينا قديما.

انى اجلس فى سكون الليل الحالك المدلهم ، صامت اللسان ، صاخب الحشا ، أرقب نافذتها المظلمة التى طالما راقبتنى من خلالها.

انى لاحيا على ما مضى .. على وريقات خلفتها لى بعد ان وضعت فيها عصارة روحها و ذوب نفسها و قلبها ، أقلبها بين يدى و أضمها الى صدرى فأجد فيها عزاء جميلا .. و يستبد بى الحنين فأبصرها من خلال الورق .. و أسمعها فى هديل الورق ، و أبيت و الغائب الحاضر فى خلوة ممتعة هنيئة ، لا يشوبها عاذل و لا يقطعها رقيب .. سوى نسمة تعبر ، أو طير يرف.

انى لأقراها المرة بعد المرة ، و انا جاثم فى خلوتى اتطلع الى مقرها السابق من النافذة المغلقة .. ما مللت قط من القراءة او النظر.

لقد حفظتها عن ظهر قلب ، و باتت كل كلمة منها ، بل كل حرف ، منقوشا فى ذهنى و فى قلبى ، كأنها كلام الله فى قلب المؤمن.

و انى لاستطيع تلاوتها و انا مغمض العينين ، و أترنم بها كاللحن الجميل و الاغنية الساحرة.

* يوسف السباعى (1917 : 1978)
* من قصة "و أوشك أعبده" من المجموعة القصصية "أغنيات" 1951. 

No comments:

Post a Comment