- رواية "السقا مات" للأديب المصرى يوسف السباعى صدرت لأول مرة عام 1952 ، و تم اختيارها من ضمن أفضل 105 رواية عربية فى قائمة نهائية اصدرها اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 2002.
- يرى النقاد أن رواية "السقا مات" ستبقى اجمل ما كتب "يوسف السباعى" و أروع ما ابدع و ستظل تحفته الباقية الى الابد.
- تدور الفكرة الرئيسية للرواية فى اطار فلسفى عن فكرة الموت ، استطاع الكاتب ان يرسم شخصيات الرواية رسما ساحرا دقيقا تجعلنا نشعر بها و كأنها تتنفس و تعيش بيننا.
- يأخذنا الراوى فى رحلة الى زمن مضى من عشرينيات القرن الماضى من العام 1921 فى احدى ربوع مصر المحروسة ، تحديدا فى حى "الحسينية" و الذى يعتبر اشهر علاماتها ، صنبور المياه الحكومى، القائم فى احدى زوايا درب السماكين ، و الذى يقع امام كشك صغير تربع فيه "سيد الدنك" .. المانح المانع ، الاَمر الناهى فى مياه الحى.
- يبدأ الكاتب فى وصف مسرح القصة من أزقة و حوارى و دروب و حوانيت و بائعين و يصل الى شارع القصاصين الذى ينتهى بضريح صغير منعزل هو ضريح "ابن هشام" حيث ازيل ما حوله من قبور لتوسيع الساحة و بقى هو قائما وحده ليدل على سخف الاحياء فى التفريق بين قيم الاموات الذى سواهم الله فى باطن الارض.
- ويستمر الكاتب فى وصفه للمكان من "درب السماكين" الدرب الموازى لشارع الحسينية ، الى مستوقد الحسينية القائم فى ظهره حمام الحسينية ليصل بنا الى منزل ضخم شامخ مهجور استؤجر ما بقى صالحا للسكنى فيه كمخزن كتب.
- و نرى صبى "السقا" يحمل قربة على ظهره و يصب مياهها حول شجرة "التمر حنة" العالية المورقة ، التى هى كل ما تبقى من الحديقة البائدة التى كانت تشغل فناء المنزل الشامخ.
- هذا هو مسرح القصة كما يبدو الان .. خرب مهدم ، شئ واحد لم يتغير منذ ثلاثين عاما .. ذلك الصبى "السقا" و شجرة "التمر حنة".
- و يبدأ الكاتب بالعودة بنا الى الوراء ثلاثين عاما مضت ثم نتوقف لنرى الصبى و الشجرة كما هما و لكن كل ما حولهما قد تبدل .. فجعلت قدمه جدة و موته حياة. فلن نعد فى مخزن الكتب بل اصبح المكان كما كان .. اصبح "السراية الكبيرة" احدى القصور لأحد العظماء ، و رجعت الحديقة الى قمة مجدها ، و نرى الصبى "سيد الدنك" الذى لم يتجاوز التاسعة من العمر يقوم بصب المياه حول شجرة "التمر حنة" بعدما قرر والده اخراجه من الكتاب و تعليمه صنعة السقا. لقد كان الصبى سعيدا بعمله لقد شعر انه اصبح فى مصاف الرجال.
- و "سيد" ذلك الطفل الذى تأسرنا شقاوته و روحه المرحه هو ابن المعلم "شوشه" "السقا" الذى يتميز بعبوسه و صمته الدائم بسبب حزنه اللا منتهى على وفاة زوجته الشابة ، كانت علاقة المعلم شوشه بإبنه علاقة بديعة ، فقد كان يعامله كأبن و صديق و ليس طفلا لم يتجاوز التاسعة من العمر فهو لا يسبه و لا يضربه ، و لكنه يبين له الخطأ و الصواب ، و يشرح له ما خفى عنه و ينصحه و يرشده ، فإذا ما أخطأ .. و هو غالبا ما يخطئ .. لأن الخطأ دائما احب و أسهل من الصواب ، لامه فى رفق ، فإذا قرره ، وهو غالبا ما يكرره ، زجره فى شدة .. فإذا لم يزدجر اوقع عليه عقابا نفسانيا .. كأن يخاصمه أو يحرمه من بعض مزايا الرجوله التى كان يمنحها له .. و لم يكن أقسى عليه من هذين العقابين.
- حاول "سيد" أن يبرر لوالده محاولته لسرقة "جوافاية" من حديقة السراية الكبيرة و محاولة اقناعه ان هذا لا يعتبر فى اطار السرقة و ان أهل السرايه ليسوا فى حاجة ماسة الى هذه الثمرة فكان رد "المعلم شوشة" عليه:-
- و لا أنت ايضا فى حاجة ماسة اليها ، و لكن المسأله أن الله و هبها لهم و لم يهبها لك .. و لكل ما وهبه الله .. و واجبنا فى الحياة ان نخلص فى عملنا ، و نتقبل بعين قريرة نتيجة هذا العمل.
- نحن اعجز من ان نحكم على حاجات سوانا .. ان فينا من الانانية مايعمينا الا عن حاجتنا .. فما من بشر يحس بحاجة غيره .. و ما من بشر يحس بالفائض عن حاجته .. فهو ابدا فى حاجة .. و غيره فى غير حاجة.
- يتعرف المعلم شوشه على "شحاته افندى" مطيباتي الجنازات ، كهلا لطيف الملامح ، بشوش الوجه ، محب للحياه ، يسحره الجنس الناعم بجميع اصنافه و اشكاله ، يتحدث دائما بسخرية عن الموت و عن غرور و حقارة البشر:-
- اياك أن ترهب انسانا لمظهره و منصبه
.. اياك ان تروع بتلك الالقاب و تلك الثياب .. انها مهما ضخمت فلن تحوى فى طياتها سوى بشر ، و مهما ضخم البشر .. فماله الى جيفة نتنة . ليغتر ما شاء له الغرور ، و ليتكبر و ليتعاظم و يتعجرف . ليفعل كل شئ .. كل ما عليك ان تعطيه موعدا اقصاه بعد اعوام .. لتلقاه فى مقبرة و انظر كيف يبدو .. اسأله عن القابه و عن ثيابه و عن حراسه و عن امواله و عن سلطانه و عن جبروته و عن قوته ثم انظر بماذا يجيبك.
- ليس هناك احقر من البشر و لا اغفل . أهناك أشد غفلة من مخلوق يغفل عن نهايته ؟ أهناك أكثر غفلة من مخلوق يوقن من نهايته و لا يعتبر بها ؟
- هذا هو الموت يا صاحبى ، و هؤلاء هم البشر . نهاية طبيعية .. لمخلوقات غير طبيعية.
- يقوم "شحاته افندى" بالتفاوض مع القواد "شرف الدين" و يتفق على دفع مبلغ خمسون قرشا من اجل قضاء ليلة حمراء مع "عزيزة نوفل" ذات الجسد الممتلئ الملتف فى الملاءة التى انحسرت عن ثوب احمر انجليزى قد بدت منه ذراعان بيضاوان ناصعتا البياض ، و كشفت فتحة صدره عن ملتقى الثديين المكتنزيين المتوثبين .. و الوجه الابيض المستدير .. و الشفتان ملتهبتين حمراوين ، و العينان متسعتين داعيتين غامزتين .. فاذا ما ولت وجهها بدا ظهرها على قلة تفاصيله اشد تفصيلا و تفسيرا و اقناعا و اغراء و استدعاء. و بعد الاتفاق يبدأ الاستعداد لتلك الليلة فيذهب الى العطار و الجزار لاحضار بعض من المقويات الى جانب قطعة من الحشيش اخذها من الشيخ "سيد الخولى" و يذهب الى بيت "المعلم شوشة" و يبدأ فى تناول هذه الاشياء ، ثم يخلد الى النوم و عندما يحاول "المعلم شوشة" ايقاظه يكتشف انه قد فارق الحياة دون ان يحقق حلمه فى قضاء ليلة مع "عزيزة نوفل".
- لقد مات مشيع الجنازات و الساخر من الاموات
- كل شئ الى نهاية .. كلنا نعرف ذلك ، و لكن المصيبة اننا لا نعرف متى النهاية .. و لو عرفناها لكنا فى استقبالها اكثر شجاعة. ان الحياة حقيرة و لكننا من نفس معدنها .. كيف نعرض عنها و نحن أشد حقارة .. يا مشيع الموتى ما كان اقدرك على كشف الاحياء .. تالله ما سمعت اصدق من قولك : ليس هناك احقر و لا اغفل ...اهناك اشد غفلة من مخلوق يغفل عن نهايته ؟ اهناك اكثر غفلة من مخلوق يوقن من نهايته و لا يهيئ نفسه لها ؟ رحمة الله عليك .. فقد كنت على حكمتك اشد البشر غفلة.
- من المشاهد المؤثرة فى الرواية مشهد انهيار المعلم شوشة عندما هبط مع جثة "شحاته أفندى" الى داخل القبر و صدمت قدمه احدى الجماجم.
- كانت قرعة "شوشة" للجمجمة هى دقة الهزيمة .. لقد انهار الرجل تماما .. و جثا بالميت على الارض .. و دفن رأسه بين كفيه و اندفع فى نحيب حاد.
- لا .. لا .. ليست هذه العظام انقاضا كأنقاض الدمن ، انها قد تكون كذلك .. لو لم يكن فى صدورنا فؤاد يخفق و قلب يدق و ينبض .. اما و هذه تكمن فى حنايانا .. فما أعز البقايا و ما أكرم الانقاض .. انها اثار عزيز غاب ، و دلائل حبيب فقد.
- ايخفق القلب لشئ غير ملموس ؟ .. لرائحة سارية؟ أو لذكرى عابرة ؟ و لا يخفق لبقية ملموسة ضمها الثرى ، و اثر محسوس حوته الارض.
- و بدأ "المعلم شوشة" بالقيام بنفس مهنة "شحاته افندى" و ارتداء نفس البدله و السير فى الجنازات ، فى البدايه كان ينهار و يندفع فى بكاء حاد مما جعله محل سخرية من زملائه فى المهنة و بمرور الوقت استطاع ان ينتصر على مخاوفه و رهبته القديمة من الموت .. لقد بات يحتقر الموت و يحتقر اكثر منه الحياة.
- تعجب الناس فى البدايه من سيره فى الجنازات الا انهم اعتادوا على ذلك ، الا ابنه "سيد" الذى طلب منه عدم الذهاب الى الجنازات فوعده بتنفيذ طلبه ، و حكى له كيف تعرف على والدته فى "السراية الكبيرة " و هو يقوم بملأ حوض النافورة حين سألته ان يقوم بسقى "شجرة التمر حنة" و لم يكن هذا من ضمن عمله و اخبرته انها قد غرستها بيدها و هى عزيزة عليها فوعدها ان يداوم على سقيها و ان تجعل مسئوليتها فى عنقه.
- حكى له كيف تزوجا ، كيف ماتت و هى تلده ، كيف كان حاله عندما فقدها ... كان الدمع يستعصى ، فالباكى لابد ان يبكى عن ادراك ، اما انا فقد كنت من الصدمة فاقد الادراك .. حاولت انا الصبر و التجلد و استعنت بالصلاة و القراَن و وضعت ايات الصبر نصب عينى أقرؤها فى كل غدوة و روحة ، و لكن الصبر كان متعذرا و الوجيعة جاثمة على القلب تأبى فراقه.
- حكى له عن مدى تأثير دخول "شحاته أفندى " فى حياته و مدى تأثره بحديثه عن الموت:-
- انها مسألة ترويض لا اقل و لا اكثر .. ان كل حدث على الارض يهون بالتعود ، و عندما بدأ هو العمل فى الجنازات و مع الاموات عرف الكثير من الحقائق :
- لقد قلت لنفسى يا بنى انها ليست اول من يموت و لست اول من فقد زوجة و لا كنت بأول من يولد بلا ام .. هذه أشياء تحدث كثيرا فى الحياة ، فيجب الا ننظر اليها على انها ماَس قد خصنا بها القدر ، يجب ان نعرف ان هذا الأمر هو سنة الحياة و طبيعة الاشياء .. يجب الا نعتبرها مفاجأة .. بل نتقبلها بالصبر .. و نواصل السير لنقوم بواجبنا حتى يصيبنا قضاء الله.
- بهذا وحده احسست بالاستقرار و السكينة .. و لكن ليس بالنسيان .. لولا ذلك القلب النائح بين الضلوع الباكى فى الحنايا ، و الذى لا يقتنع بمنطق و لا يسلم بعقل و لا يحتمل صبرا .. اننى لم انسها رغم اكتشافى لحقيقة الموت و الحياة .. لقد كنت اشيعها فى كل جنازة اسير امامها ، انى احس بمتعة فى تشييع الجنازات .. فهى تقربنى اليها و تهون على نفسى مسأله الموت و تعدنى لاستقباله غير وجل و لا هياب ، و عندما تهون علي الإنسان النهاية.. تهون الحياة.
- و يموت المعلم شوشة اثر انهيار البيت و هو بداخله و يترك ابنه الوحيد مع جدته العمياء ليرسم لنا الكاتب مشهدا فريدا من نوعه من اكثر المشاهد تاثيرا على النفس ، حين يقوم "سيد" الطفل ذو التسع سنوات بارتداء بدله الافندية ليتقدم جنازة أبيه.
- فوجئ القوم و هم يرون قزما ، يهرول فى بدله سوداء فضفاضة و طربوش قد غطى اذنيه و كاد يغطى عينيه ، و قد اندفع يعدو حاملا القمقم ، متخذا مكانه امام النعش.
- و ازاح "سيد" الطربوش الواسع عن عينيه ، و قد بدا عليه التجلد و الصبر و الهدوء و الايمان و قال فى صوت هادئ و كأنه يردد قطعة محفوطات حفظها عن ظهر قلب:
- انى أود أن أكرمه .. كما أكرم سواه .. و أنا لست حزينا .. أنه ليس بأول أب يموت .. و لا كنت بأول يتيم يفقد أباه .. هذه أشياء تحدث كثيرا فى الحياة ، فيجب الا ننظر اليها على انها ماَس قد خصنا بها القدر ، يجب ان نعرف ان هذه هى سنة الحياة و طبيعة الاحداث فيها .. يجب الا نعتبرها مفاجأة .. بل نتقبلها بصبر .. و الصابرين فى البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون . يجب ان نصبر و نواصل السير فى الحياة لنقوم بواجبنا نحو الخالق و المخلوقات .. حتى يصيبنا قضاء الله.
- ما اوهى خيط الحياة .. و اضعف مادة الاحياء
و حل "سيد" محل ابيه فى عمله ، و مرت الايام و الصبى يسير فى الحياة حاملا عبئها بجلد و صبر قائما بواجبه نحو الخالق و المخلوقات ، و لم ينس يوما ، واجبه نحو شئ عزيز .. كان يرى فيه .. صورة الغائبين .. لم ينس يوما سقية التمر حنة. و ماتت جدته و اضحى "سيد" رجلا و تزوج و انجب ولدا ، و فى كل صباح يحمل صبيه القربة الصغيرة ليسقى الشجرة العزيزة. و فى الكشك الخشبى جلس "سيد" جلسته منذ ثلاثين عاما و وراءه قد علق لافته "و الصابرين فى البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و اولئك هم المتقون"
No comments:
Post a Comment